تأملات في رحلة الحج (1)
مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي
ها هي أفواج الحجيج أقبلت إلى بيت الله تعالى راغبة فيما عنده ، سالكة إليه كل فج وهاهي أصوات الملبين تملأ الأرض عبقاً جميلاً لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك ، فمد نظرك أيها الحاج ترى مظاهر العبودية لله تعالى في كل لحظة تملأ عينك من هؤلاء الحجيج . فيا لله ما أروع اجتماعهم! وما أجمل لباسهم ! وما أحلى صدى أصواتهم وهي تتردد في الآكام والطرقات والجبال .. إنها اللحظات التاريخية في حياة كل إنسان .
إن الرحلة إلى بيت الله تعالى أعظم من أن يصف أفراحها قلم ! وأكبر من أن يبين عن لحظاتها إنسان ! لكن حسبي أن أعلّق على مقاصدها وأفراحها الحقيقية ولذاتها المنسية بغية أن يكون الحاج في ذكرى منها .
تأمل أيها الحاج في توفيق الله تعالى لك ، وقد هيأ لك الخروج ، وأعانك على الحج ، ويسّر لك الطريق ، فبا لله عليك أي نعمة هذه التي أعطاك ؟! وأي توفيق هذا الذي وهبك ؟! أما والله حين أعطاك حرم غيرك ، وحين يسّر لك الطريق وأعانك على الرحلة وهبك شيئاً لم يهبه لغيرك .. فتأمل في توفيق الله تعالى ، فما قعد إنسان عن موارد التوفيق إلا بعض خذلان المعاصي ، واقرأ قوله تعالى \" وما بكم من نعمة فمن الله \" وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها \" .
إنك تودع أهلك والدموع شواهد على الفراق ، والذكريات تأخذ منهم كل مأخذ ، وتبين لهم عن كل موقف في لحظات حياتك معهم .. تودعهم كأنما لا تلتقون في عرصات الدنيا مرة أخرى ... تودعهم وأنت بين شوقين شوق يجرك إلى البقاء بين من يذوب قلبه لفراقك ، يتمناك في يوم عيده كما يتمنى العافية لجسده ، وبين شوق إلى رحلة الحج وأصوات الملبين وحادي الحجاج في مكة ومنى ومزدلفة وعرفات .
وهانت على مشارف ميقات الإحرام .. وأراك تمر به لا تتجاوزه تحقيقاً منك لأمر الله تعالى وشرعه ، وهذه أثمن لحظة في حياة إنسان ، حين يكون وقّافاً عند أمر الله تعالى حابساً نفسه على مراضيه ، متتبعاً لآثار سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
إن هذا المعنى أيها الحاج عظيم ، ينبغي لك أن تتأمله كثيراً ، إنك توقف سيارتك ، وتنحرف من الطريق إلى الميقات ، وتقف في الحر الشديد تكون بذلك مؤمناً متحرياً أمر الله تعالى ، متتبعاً لآثار سنة نبيك ، مريداً لفضل الله تعالى ، راغباً بصدق فيما عند الله تعالى .. وإنها والله عظيمة عند الله تعالى فتأملها لا حرمك الله التوفيق ، وليتك أيها الحاج تلك اللحظة تقف مع نفسك تسائلها .. كم هي أوامر الله تعالى التي كانت بحاجة منك إلى مثل هذا التحري والاقتداء والوقوف ذهبت في أيام الدنيا وكتبت بعض أنواع العقوق ؟! عد بالذاكرة إلى الوراء وتأمل في حياتك تلك اللحظات التي كانت تحتاج منك إلى مثل هذه اللحظات .. وذهبت في عرض الأيام ..
ولست أدعوك للتأسف فيها والندم عليها بقدر ما أدعوك فيها إلى بناء مستقبلك بناء على هذه الذكريات ، فإن هذه غايات هذه الرحلة الجميلة في حياتك .
تأمل في لحظة خلع ملابسك وتجردك من كل لباس كان يستر عورتك ، وتركك لحظوظ النفس رغبة فيما عند الله تعالى .. إنها لحظة مثيرة في حياتك كإنسان .. فإذا انضاف إلى ذلك لبسك لملابس الإحرام إذعاناً لله تعالى ، وتتبعاً لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم
عَظُمت في حقك القدوة للدرجة التي كتبت عنوان استسلامك لله تعالى في كل معنى من جسدك .
وأدعوك هنا للتأمل في إحرامك ستجد دون تفكير أنه تذكير بالكفن تماماً ، ليس ثمة فرق في شيء .. كما يخرج الميت من بيت أهله تخرج أنت كذلك .. إنها رحلة تذكّر بالموت ولقاء الله تعالى وتوديع الدنيا والوقوف في عرصات القيامة ..لحظة الإحرام شبيهة إلى حد كبير بلحظة الوداع من الدنيا ، وليس ثمة فرق إلا في أنك تنبض بالحياة مع الإحرام ، ويموت منك كل شيء في لحظات الكفن ... فيا لله كم لهذه المواقف في حياة إنسان من وقفات ؟!
وتأمل ثالثة في التلبية \" لبيك الله اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك \" إنها سر من أسرار الحج ومعنى كبيراً من معانيه .. إن التلبية إعلان منك ليس على الملأ من الإنس .. كلا ! وإنما إعلان على الحجر والمدر والإنس والجان والشجر والدواب .. إنها رسالة توحيد وولاء لله تعالى ليس للناس فيها مثقال ذرة .. إن التلبية تعني أنك مستجيب لله تعالى في كل شيء ، إنك عبد من عبيده وخلق من خلقه ، وها أنت تعلنها لكل عوالم الأرض والسماء ..!
إنك تقول بملأ فمك \" لبيك اللهم لبيك \" أجيبك إجابة بعد إجابة ، لست متخيراً في أمرك ولا واقعاً في نهيك .. إنني أشهد عوالم الأرض والسماء كلها أنني عبدك في كل شيء .. لم يعد مكاناً للشرك في قلبك .. أي شرك سواء كان قولياً أو فعلياً أو قلبياً . تأمل أسرار هذه التلبية وحين ترددها على لسانك يجب عليك أن يمتلأ بها قلبك ، وتستكن في جوارحك ، وتعيشها في كل لحظة من حياتك .
إن هذا المعنى ينبغي الوقوف عنده طويلاً ، قف عند لحظات التلبية ومعناها الكبير وتأمل كم هو نصيبك الحقيقي منها .. ليس بالضرورة الآن ! لكن في كل شيء من حياتك هل ما تقوله وتردده وتشرف به وتعيده على مسمع الناس تتمثله في حياتك ؟ أم ذهبت الكلمة تطوف الأرض وبعض واقعك خلافها ربما تلك التي اللحظة التي تقولها .. إنه موقف بحاجة إلى تأمل ، لا أدعوك هنا أن تقف عن التلبية لعدم مطابقتها لواقعك لكن أدعوك أن تنتظم حياتك كلها فتكون وقفاً صادقاً لله تعالى ، وحينئذ تنتظم التلبية في واقعك ، وتعلن بشرف عن عبوديتك .
تأمل لحظة دخولك إلى المسجد الحرام ، لتبدأ طوافك بيت الله تعالى ، تأمل سنة الاضطباع تفعلها أول ما تدخل اقتداء بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ، وتتبعاً لآثاره ، إنك تكشف بعض جسدك تعبداً لله تعالى ، ولو كانت الشمس حارة قاسية فإن تعظيم السنة في ذهنك أعظم من كل ما يعترضها من مشاق .. ! لقد كانت هذه السنة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً للجلد ورداً على المتشدقين بالضعف من قريش في فترة من الزمن ، ثم كانت سنة ظاهرة تذكيراً برسالة الأمة في مواجهة العداء ، وبياناً للمواقف التي ينبغي أن تتخذ تجاه أي شبهة يثيرها المتشوفون لهزيمة الأمة في وقت ما
إن الاضطباع يذكرنا أن ثمة وصية من نبينا صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يرفع شأنها ، وتذكرنا أن لنا أعداء متربصون ، ينبغي أن نستعد للقائهم والرد عليهم كل وقت .. فتأملها تلك اللحظة حتى تكون منك على بال .
تأمل إقبالك على الحجر لحظة دخولك ، إنه حجر لا يضر ولا ينفع ، ومع ذلك صارت له هذه القداسة الكبرى للدرجة التي يُحب ويُقبل ويُقصد لا لذاته ، لكن لأن نبينا صلى الله عليه وسلم استلمه وقبله .. إنه معنى عظيم في الاقتداء يدعونا أن نجل الحجارة وأن نرفع مقامها وأن نعلي شأنها لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قال لنا ذلك ونحن متبعون ! هكذا الحب يحمل أصحابه إلى مثل ذلك وأكبر ، وشيء تنفّس فيه النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة حب أو دعوة أو حتى فعلاً منه دون دعوة تجد المسلم يركض إليه وهو يشرف أنه يقتفي آثار الأنبياء .
إن مظهر الطواف من أعظم المظاهر في حياة الإنسان ، ذلك لأنه إجلال لبيت الله تعالى أعظم بيت في الأرض ، \" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدي للعالمين \" إننا حين نطوّف بالبيت نطوف وقلوبنا تمتلأ إجلالاً لبيت الله تعالى وتعظيماً له وبياناً لمنزلته ، ونطوف ونحن نشعر بنبينا صلى الله عليه وسلم في كل حركة أو خطوة خطاها في جنبات هذا الحرم الشريف ، ونطوف ونحن حريصين على تلمّس البركة والهداية والتوفيق في كل شوط .. إن المسألة ليست ركضاً حرصاً على النهاية .. كلا ! وإنما هي استشعاراً لهذه البركة وتملساً لهذه الخيرات ..
إن الحاج مدعو وهو يطوف أن يلح على الله تعالى في الدعاء وأن يحاول جاهداً في استنزال البركة التي كساها الله تعالى بيته العظيم ، وحين يحاول كل واحد منا وهو يؤدي هذا النسك استشعار هذه القضية ، واستلهام مواطن التوفيق فيها سيجد آثاراً عاجلة تحتف بقلبه وروحه وجسده وهي تعرج به إلى السماء .
إنك مدعو وأنت تتعبد في جنبات هذا الحرم أن تدرك البركة التي وضعها الله تعالى لعباده فيه ، وقد بلغك عن نبيك صلى الله عليه وسلم مضاعفة الصلاة بمئة ألف صلاة فيما عداه . ومدعو لتلمّس هذه البركة في كل حركة تخطوها في جنباته ليس في الصلاة بذاتها لكن في كل معنى من معاني العبودية ومظاهرها في لحظات الحرم والبيت العظيم
تأمل ذلك المقام الذي دعاك الله تعالى للصلاة عنده ، \" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى \" إنه يحكي آثار أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه اسماعيل وهما يبنيان مستقبل الأمة ، ويكتبان تاريخها العريض .. وهكذا ترتفع آثار نبي من الأنبياء ويصبح معلماً لأمم الأرض كلها لأنه كان استجابة لأمر الله تعالى أولاً ، وكان مثالاً على العمل والحرث والتضحية من أجل هذه الرسالة ثانياً .. وقد بلغك أن آثار الناس تعظم في الدنيا بقدر همم أصحابها في العمل ، وهمم قلوبها على الصبر ، وتضحيتها وصبرها على لأواء الطريق ، وإنه مشهد يذكّرنا بأن العمل ينبت الذكر في الأرض كما ينبت الماء جذور الأشجار . وأن أي إنسان يظل ذكره في الأرض بقدر تعبه وحرثه وتضحيته من أجل رسالة الإسلام ، وهاهو إبراهيم سنظل نردد ذكره في لحظات حياتنا ، وأي مخلوق في الأرض ينسى هذا الاسم يقل قدره في التأسي حتى وإن كان في لحظة لا تقاس بزمن .
تأمل الصفا والمروة ، وتذكّر وأنت تعلو على الصفا أو تجري في بطن الوادي أو تعلو مرة ثانية على المروة أن هذه شعائر الله تعالى ، \" ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب\" .. تذكّر وأنت تؤدي هذه الشعيرة رحلة هاجر وهو تبحث عن الماء وقد بلغ العطش بها وبابنها كل مبلغ ، تذكّر رحلتها وهي تشرف على الصفا ترخي سمعها رب هتاف مغيث وتسعى في الوادي تعجّل بالسير تبحث عن المرتقى على المروة .. إنها رحلة لأواء وتعب وجهاد وعناء ومشقة تكتنف امرأة في حقب التاريخ يجعلها الله تعالى مواطن ذكريات ليس لجيل من المسلمين ، وإنما لكل مسلم يعيش رحلة الحياة ورسالة الإسلام إلى يوم القيامة .
تأمل وأنت تجري بين العلمين الحال الذي كانت تعانيه المرأة من أجل شربة ماء ، وتذكّر أنك لا تجري اليوم هنا من أجل ماء تروي به العطش وإنما تجري من أجل مغفرة تغسل ذنوبك ، وتمحي خطاياك ، وتجب تاريخاً مظلماً في لحظة من حياتك .. لئن كانت حاجة الإنسان إلى الماء لهذه الدرجة التي مثلتها لنا هاجر ، فإن حاجة الإنسان للمغفرة قل أن يصفها قلم !
إن القاسم بيننا وبين هاجر قاسم كبير جداً يكفيها شرفاً أنه قاسم الحياة ، كان في لحظات هاجر أمل حياة ، وهو في لحظاتنا أمل حياة كذلك . وهانحن نجري كما جرت ونعلو كما علت ، وإن استشرفت لماء الحياة في تاريخها ، فإننا نستشرف لماء نغسل به قلوبنا من حقدها وسوء ظنها ، ودغلها ، كما نغسل به حياة تدنّست في عرض الدنيا بشيء مما لم تخلق له لكنها تدنست بوحلة سنة الله تعالى في كل مخلوق...
. منقول